الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وفي قراءة الباقين: {لَّكِنَّ هُوَ الله رَبّى} بغير ألف والمعنى واحد ثم قال المؤمن: {وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا} ذكر القفال فيه وجوهًا: أحدها: إني لا أرى الفقر والغنى إلا منه فأحمده إذا أعطى وأصبر إذا ابتلي ولا أتكبر عندما ينعم علي ولا أرى كثرة المال والأعوان من نفسي وذلك لأن الكافر لما اعتز بكثرة المال والجاه فكأنه قد أثبت لله شريكًا في إعطاء العز والغنى.وثانيها: لعل ذلك الكافر مع كونه منكرًا للبعث كان عابد صنم فبين هذا المؤمن فساد قوله بإثبات الشركاء.وثالثها: أن هذا الكافر لما عجز الله عن البعث والحشر فقد جعله مساويًا للخلق في هذا العجز وإذا أثبت المساواة فقد أثبت الشريك ثم قال المؤمن للكافر: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله} فأمره أن يقول هذين الكلامين الأول قوله: {مَا شَاء الله} وفيه وجهان: الأول: أن تكون {ما} شرطية ويكون الجزاء محذوفًا والتقدير أي شيء شاء الله كان.والثاني: أن تكون ما موصولة مرفوعة المحل على أنها خبر مبتدأ محذوف وتقديره الأمر ما شاء الله، واحتج أصحابنا بهذا على أن كل ما أراده الله وقع وكل ما لم يرده لم يقع وهذا يدل على أنه ما أراد الله الإيمان من الكافر وهو صريح في إبطال قول المعتزلة أجاب الكعبي عنه بأن تأويل قولهم: ما شاء مما تولى فعله لا مما هو فعل العباد كما قالوا: لا مرد لأمر الله لم يرد ما أمر به العباد ثم قال: لا يمتنع أن يحصل في سلطانه ما لا يريده كما يحصل فيه ما نهى عنه، واعلم أن الذي ذكر الكعبي ليس جوابًا عن الاستدلال بل هو التزام المخالفة لظاهر النص وقياس الإرادة على الأمر، باطل لأن هذا النص دال على أنه لا يوجد إلا ما أراده الله وليس في النصوص ما يدل على أنه لا يدخل في الوجود إلا ما أمر به فظهر الفرق وأجاب القفال عنه بأن قال: هلا إذا دخلت بستانك قلت ما شاء الله كقول الإنسان هذه الأشياء الموجودة في هذا البستان ما شاء الله، ومثله قوله: {سَيَقُولُونَ ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] وهم ثلاثة وقوله: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} [البقرة: 58] أي قولوا هذه حطة وإذا كان كذلك كان المراد من هذا الشيء الموجود في البستان شيء شاء الله تكوينه وعلى هذا التقدير لم يلزم أن يقال كل ما شاء الله وقع لأن هذا الحكم غير عام في الكل بل مختص بالأشياء المشاهدة في البستان وهذا التأويل الذي ذكره القفال أحسن بكثير مما ذكره الجبائي والكعبي، وأقول: إنه على جوابه لا يدفع الإشكال على المعتزلة لأن عمارة ذلك البستان ربما حصلت بالغصوب والظلم الشديد فلا يصح أيضًا على قول المعتزلة أن يقال: هذا واقع بمشيئة الله.اللهم إلا أن نقول المراد أن هذه الثمار حصلت بمشيئة الله تعالى إلا أن هذا تخصيص لظاهر النص من غير دليل.والكلام الثاني: الذي أمر المؤمن الكافر بأن يقوله هو قوله: {لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله} أي لا قوة لأحد على أمر من الأمور إلا بإعانة الله وإقداره.والمقصود إنه قال المؤمن للكافر: هلا قلت عند دخول جنتك الأمر ما شاء الله والكائن ما قدره الله اعترافًا بأنها وكل خير فيها بمشيئة الله وفضله فإن أمرها بيده إن شاء تركها وإن شاء خربها، وهلا قلت لا قوة إلا بالله إقرارًا بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها فهو بمعونة الله وتأييده لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده إلا بالله ثم إن المؤمن لما علم الكافر الإيمان أجابه عن افتخاره بالمال والنفر فقال: {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا} من قرأ أقل بالنصب فقد جعل أنا فصلًا وأقل مفعولًا ثانيًا ومن قرأ بالرفع جعل قوله: {أَنَاْ} مبتدأ وقوله: {أَقُلْ} خبر والجملة مفعولًا ثانيًا لترن واعلم أن ذكر الولد هاهنا يدل على أن المراد بالنفر المذكور في قوله: {وَأَعَزُّ نَفَرًا} الأعوان والأولاد كأنه يقول له: إن كنت تراني: {أَقُلْ مَالًا وَوَلَدًا} وأنصارًا في الدنيا الفانية: {فعسى رَبّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مّن جَنَّتِكَ} إما في الدنيا، وإما في الآخرة.ويرسل على جنتك: {حُسْبَانًا مِّنَ السماء} أي عذابًا وتخريبًا والحسبان مصدر كالغفران والبطلان بمعنى الحساب أي مقدارًا قدره الله وحسبه وهو الحكم بتخريبها.قال الزجاج: عذاب حسبان وذلك الحسبان حسبان ما كسبت يداك وقيل حسبانًا أي مرامي الواحد منها حسبانة وهي الصواعق: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} أي فتصبح جنتك أرضًا ملساء لا نبات فيها والصعيد وجه الأرض، زلقًا أي تصير بحيث تزلق الرجل عليها زلقًا ثم قال: {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا} أي يغوص ويسفل في الأرض: {فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} أي فيصير بحيث لا تقدر على رده إلى موضعه.قال أهل اللغة في قوله: {مَاؤُهَا غَوْرًا} أي غائرًا وهو نعت على لفظ المصدر كما يقال: فلان زور وصوم للواحد والجمع والمذكر والمؤنث ويقال نساء نوح أي نوائح. اهـ.
.قال الجصاص: قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ} قِيلَ فِي مَا شَاءَ اللَّهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ فَحُذِفَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ} فَحُذِفَ مِنْهُ فَافْعَلْ.وَالثَّانِي: هُوَ مَا شَاءَ اللَّهُ.وَقَدْ أَفَادَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ مِنَّا مَا شَاءَ اللَّهُ يَنْتَظِمُ رَدَّ الْعَيْنِ وَارْتِبَاطَ النِّعْمَةِ وَتَرْكَ الْكِبْرِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إخْبَارًا أَنَّهُ لَوْ قَالَ ذَلِكَ لَمْ يُصِبْهَا مَا أَصَابَ. اهـ..قال الماوردي: قوله تعالى: {فعسى ربّي أن يؤتين خيرًا مِنْ جنتك} فيه وجهان:أحدهما: خيرًا من جنتك في الدنيا فأساويك فيها.الثاني: وهو الأشهر خيرًا من جنتك في الآخرة، فأكون أفضل منك فيها.{ويرسل عليها حُسْبانًا من السماء} فيه خمسة تأويلات:أحدها: يعني عذابًا، قاله ابن عباس وقتادة.الثاني: نارًا.الثالث: جرادًا.الرابع: عذاب حساب بما كسبت يداك، قاله الزجاج، لأنه جزاء الآخرة. والجزاء من الله تعالى بحساب.الخامس: أنه المرامي الكثيرة، قاله الأخفش وأصله الحساب وفي السهام التي يرمى بها في طلق واحد، وكان من رَمي الأساورة.{فتصبح صعيدًا زلقًا} يعني أرضًا بيضاء لا ينبت فيها نبات ولا يثبت عليها قدم، وهي أضر أرض بعد أن كانت جنة أنفع أرض.{أو يصبح ماؤها غورًا} يعني ويصبح ماؤها غورًا، فأقام أو مقام الواو، و{غورًا} يعني غائرًا ذاهبًا فتكون أعدم أرض للماء بعد أن كان فيها.{فلن تستطيع له طلبًا} ويحتمل وجهين:أحدهما: فلن تستطيع رد الماء الغائر. الثاني: فلن تستطيع طلب غيره بدلًا منه وإلى هذا الحد انتهت مناظرة أخيه وإنذاره. اهـ..قال ابن عطية: قوله: {قال له صاحبه}.حكاية أن المؤمن من الرجلين لما سمع كلام الكافر وقفه على جهة التوبيخ على كفر بالله تعالى، وقرأ أبي بن كعب: {وهو يخاصمه}، وقرأ ثابت البناني، {ويلك أكفرت}، ثم جعل يعظم الله تعالى عنده بأوصاف تضمنت النعم والدلائل على جواز البعث من القبور، وقوله: {من تراب} إشارة إلى آدم عليه السلام، وقوله: {سواك رجلًا} كما تقول سواك شخصًا أو حيًا، أو نحو هذا من التأكيدات، وقد يحتمل أن قصد تخصيص الرجولة، على وجه تعديد النعمة، في أن لم يكن أنثى ولا خنثى، وذكر الطبري نحو هذا، واختلف القراءة في قوله: {لكنا} فقرأ ابن عامر ونافع في رواية المسيبي {لكنا} في الوصل والوقف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي: {لكن} في الوصل و{لكنا} في الوقف، ورجحها الطبري، وهي رواية ورش وقالون عن نافع، وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب والحسن: {لكن أنا هو الله ربي}، وقرأ عيسى الثقفي والأعمش بخلاف {لكن هو الله ربي} فأما هذه الأخيرة فبين على الأمر والشأن، وأما الذي قبلها فعلى معنى لكن أنا أقول ومن هذه الفرقة، من قرأ: {لكننا}، على حذف الهمزة وتخفيف النونين، وفي هذا نظر، وأما من قرأ: {لكننا}، فأصله عنده لكن أنا: حذفت الهمزة على غير قياس، وأدغمت النون في النون، وقد قال بعض النحويين: نقلت حركة الهمزة إلى النون فجاء لكننا، ثم أدغمت بعد ذلك فجاء {لكنا}، فرأى بعض القراء أن بالإدغام استغني عن الألف الأخيرة، فمنهم من حذفها في الوصل، ومنهم من أثبتها في الوصل والوقف، ليدل على أصل الكلمة، ويتوجه في {لكنا} أن تكون لكن لحقتها نون الجماعة التي في خرجنا وضربنا، ووقع الإدغام لاجتماع المثلين، ثم وجد في {ربي} على المعنى، ولو اتبع اللفظ لقال ربنا ذكره أبو علي، ويترجح بهذا التعليل قول من أثبت الألف في حال الوصل، والوقف، ويتوجه في {لكنا} أن تكون المشهورة من أخوات إن، المعنى: لكن قولي: هو {الله ربي}، أما أني لا أعرف من يقرأ بها وصلًا ووقفًا، وذلك يلزم من يوجه هذا الوجه، وروى هارون عن أبي عمرو {ولكنه هو الله ربي} بضمير لحق لكن وباقي الآية بين، وقوله: {ولولا إذ دخلت جنتك} الآية: وصية من المؤمن للكافر، {ولولا} تحضيض، بمعنى هلا و{ما} يحتمل أن تكون بمعنى الذي، بتقدير الذي إن شاء الله كائن، وفي {شاء} ضمير عائد، ويحتمل أن تكون شرطية، بتقدير ما شاء الله كان، ويحتمل أن تكون خبر ابتداء محذوف تقديره هو ما شاء الله، أو الأمر ما شاء الله، وقوله: {لا قوة إلا بالله} تسليم وضد لقول الكافر {ما أظن أن تبيد هذه أبدًا} وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي هريرة: «ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة؟ قال بلى يا رسول الله، قال: {لا قوة إلا بالله} إذا قالها العبد قال الله عز وجل أسلم عبدي واستسلم»، وفي حديث أبي موسى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له «يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟» قال افعل يا رسول الله، قال: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»، واختلفت القراءة في حذف الياء من {ترن} وإثباتها فأثبتها ابن كثير وصلًا ووقفًا، وحذفها ابن عامر وعاصم وحمزة فيهما، وأثبتها نافع وأبو عمرو في الوصل فقط، وقرأ الجمهور: {أقلَّ} بالنصب على المفعول الثاني، وقوله: {أنا} فاصلة ملغاة وقرأ عيسى بن عمر: {أقلُّ} بالرفع، على أن يكون {أنا} مبتدأ و{أقل} خبره، والجملة في موضع المفعول الثاني، والرؤية، رؤية القلب في هذه الآية.{فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40)}.هذا الترجي بعسى يحتمل أن يريد به في الدنيا، ويحتمل أن يريد به في الآخرة، وتمني ذلك في الآخرة أشرف مقطعًا، وأذهب مع الخير والصلاح، وأن يكون ذلك يراد به الدنيا أذهب في نكاية المخاطب، وأشد إيلامًا لنفسه، والحسبان العذاب كالبرد والصر ونحوه، واحد الحسبان: حسبانة، وهي المرامي من هذه الأنواع المذكورة، وهي أيضًا سهام ترمى دفعة بآلة لذلك، والصعيد وجه الأرض والزلق الذي لا تثبت فيه قدم، يعني أنه تذهب أشجاره ونباته، ويبقى أرضًا قد ذهبت منافعها، حتى منفعة المشي فيها، فهي وحل لا تنبت ولا تثبت فيه قدم، والغور مصدر يوصف به الماء المفرد والمياه الكثيرة، كقولك رجل عدلٍ وامرأة عدل ونحوه، ومعناه ذاهبًا في الأرض لا يستطاع تناوله وقرأت فرقة {غَورًا}، وقرأ فرقة {غُورًا}، بضم الغين، وقرأت فرقة {غُؤرًا}، بضم الغين وهمز الواو، و{غور} مثل نوح، يوصف به الواحد والجمع المذكر والمؤنث، ومنه قول الشاعر: الوافر:وهذا كثير، وباقي الآية بين. اهـ. .قال ابن الجوزي: قوله تعالى: {قال له صاحبه}.يعني: المؤمن {وهو يحاوره أكفرتَ بالذي خلقك من تراب} يعني: خلق أباك آدم {ثم من نطفة} يعني: ما أنشىء هو منه، فلما شَكَّ في البعث كان كافرًا.قوله تعالى: {لكنَّا هو الله ربِّي} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وقالون عن نافع: {لكنَّ هو الله ربِّي}، باسقاط الألف في الوصل، وإِثباتها في الوقف.وقرأ نافع في رواية المُسَيّبي بإثبات الألف وصلًا ووقفًا.وأثبت الألف ابن عامر في الحالين.وقرأ أبو رجاء: {لكنْ} بإسكان النون خفيفة من غير ألف في الحالين.وقرأ ابن يعمر: {لكنَّ} بتشديد النون من غير ألف في الحالين.وقرأ الحسن: {لكنْ أنا هو اللهُ ربِّي} بإسكان نون {لكنْ} وإِثبات {أنا}.قال الفراء: فيها ثلاث لغات: لكنّا، ولكنّ، ولكنَّه بالهاء، أنشدني أبو ثروان:وقال أبو عبيدة: مجازه: لكن أنا هو الله ربي، ثم حُذفت الألف الأولى، وأُدغمت إِحدى النونين في الأخرى فشدِّدت.قال الزجاج: وهذه الألفُ تُحذف في الوصل، وتُثبت في الوقف، فأما من أثبتها في الوصل كما تثبت في الوقف، فهو على لغة من يقول: أنا قمتُ، فأثبت الألف، قال الشاعر: وهذه القراءة جيدة، لأن الهمزة قد حذفت من أنا، فصار إِثبات الألف عوضًا من الهمزة.قوله تعالى: {ولولا إِذ دخلتَ جنتك} أي: وهلاّ؛ ومعنى الكلام التوبيخ.
|